06 فبراير 2018
مسرح التصالح
تَخَشّبنا أثر موجات التغريب العارمة، وما زلنا نقف بأرجل الطين تماشياً مع طبيعتنا على رغم جمود المحيط. مغالطة كبرى أن نسكن فرضية، فننزاح وفق تيه موجاتها، يمنة ويسرة ومع الحياة. نجبر على خيار القبول بتمسرح على خشبة، حيث لا مناص من مشهد يومي وذوات مخبأة في كواليس الحياة، تعيد صبغ الإشارات وتلوين الملامح وتصاريف شؤونها اليومية بتماه مع الواقع المفتعل، بل بإغراق في مجاهل تسكننا من دون وعي ودون قدرة على التراجع.
الحياة مسرح كبير والوقوف على أعتابه ليس بخيار سهل؛ بل هو منتهى التعقيد والتبسيط في مفارقة استثنائية لا يفك عقدها إلا العودة إلى روح وأصل الأشياء، والإنسان حيث البساطة في التكوين والتصالح مع الذوات.
المسرح ليس مجرد خشبة وكواليس، والعرض والأداء ليسا وصفاً تاريخياً فقط يعيد التراكمية في بناء التاريخ في صورة التمثل والتقمص للأدوار؛ وإنما هو فن يعتمد على إرهاق الذهن لمعرفة المجهول، وإجلاء التأويلات لما وراء الكلمات التي تستشرف الآتي وتميط ألثمة الحاضر عن وجه الحقيقة وحقيقة الفعل باستعادات تغني مواوييل وتطرح تساؤلات لا حصر لها على خشبات الروح المرهقة.
كما أن العرض ليس حراكاً يقتصر على التنفيذ والتمرين والتدريب والدربة، واستعادة الصور والوجوه والطبيعة في صور تفاعلية تخدمها التقنية في كثير من الأحوال، ويخونها الواقع، لتقدم بثوب جديد مبهر بل هو فن إبداعي ينشأ أصيلاً مغايراً ومتمايزاً، ويتحول فن الإبداع (النص) إلى وسيلة لتحقيق غاية مبتكرة جديدة هي العرض نفسه.
مغالطة أخرى تريد شيئاً من الحزم والصراحة وتجنب المجاملة التي قد تقتل الفعل والحراك المسرحي لأن التعليم الأكاديمي والتخصصي يرتبط بالضرورة بالمتعة الناضجة، والرغبة في التغيير المبدع، تلك التي تمتد حيث العقل والإقناع في التصوير والتمثّل، وتثري المخيلة لتخايل مفضٍ إلى سوية فكرية، فكلما تعمق الفهم ازدادت المتعة والفائدة بالنسبة إلى العرض والجمهور.
ووفق شكسبير هناك مبررات تجعلنا ننظر إلى العرض وفنونه باعتباره سلاحاً ضد مراهنات وتطورات الزمن، فكل عرض مسرحي يُعد في أبعاده تأملاً في معنى الزمن، والوجود، لذا كان على يقين بأن العرض المستمر لأعماله هو ضمان ووسيلة لخلوده.
ولكى نفهم طبيعة العرض المسرحي علينا أن نعود إلى التصالح ونقف بموضوعية عند فرضية التمسرح، ونتمترس خلف العلم ونرتبط بالثقافة العامة وبالخبرات وتراكمها، إضافة إلى فرضيات التشكل وانسجامها واتساقاتها، وبيقين أن المتعة والفرجة متحققتتان مع الوعي والإدراك بالنظر إلى العرض كعملية جسدية مادية ومجازية استعارية واستعادية شاملة ومستدامة.
إن واقع مسرح الخليج العربي لا يختلف عن واقع المسرح في الوطن العربي الكبير فالجرح واحد والوجع والهم مشترك، والآمال والطموح والتحديات هي ذاتها، قفط مساحة الأمان التي ينعم بها بلد عن آخر، ومساحات الخوف التي يسكن خلف أستارها بلد عن آخر.
ولا شيء يعرجنا إلى هذه التساؤلات المنطرحة في كل ملتقى فكري مسرحي إلا مغاليق الإجابات، واقع التحديات لإنضاج الفِكر لممثل ومسرح وحياة، إن كان المسرح أبو الفنون فعليه أن يبدأ في فك تلك المغاليق، وأن يرتقى بها كلها إلى قناعات حتمية، والبحث عن إجابات واقعية واضحة متجانسة مع الفرد والمجتمع، وقابلة للتجنس والتكيف، وليكن أبو الفنون هو القدوة من حيث إتقان المَشَاهد ونقل الواقع، لإمتاع المُشَاهِد وإفادته وتنويره، وردم الهوة الفاتحة فاها لابتلاع كل التخبطات والتيه المعنون بالتجارب، لا سيما أننا نحتاج إلى بوصلة وموجه، ونحتاج في زمن الافتراضات الآسر إلى منافذ فرح وإنوار لإضاءة الطريق، نحتاج إلى المسرح في شكل خاص لنشكل الرأي ونكتم فم الوهم والخيبة والضعف الساكن عند العتبات الفارغة.
واقع التخاطب والتخاطر وواقع التأسي بالخبرات والتجاذب لتقريب وجهات النظر حول مرئيات النهوض بالمسرح نحو سوية التعبير عن الأفكار والآراء والطموح بالارتباط بالواقع، وعدم النزوح عنه للبعيد المتخيل والمتناقض، واقع فيه تساؤلات جمة هول إمكانية العمل بجدية الساعي إلى تنمية المدارك، وإيجاد حلول لقضية الهوية والوطن وحقوق الإنسان (الطفولة – المرأة – الإعلام- الحرب والسلم – القناعات- الاتجاهات... الخ)، وإتاحة الفرصة للتجديد، وللدلوف في عوالمنا بلا إسفاف لحقيقة حتمية، وبلا تطاول بالحلم والرغبة حد الغرق في هاوية جديدة تساهم في تضليلنا وقتامة المشهد أكثر.
واقع التحدي الذي تشهده العروض على مسرح الحياة في وطننا العربي، واقع مرتبك، فللتحدي مقاييس منها استكمال المشهد بإلهام يربطك بتلابيب الخيال؛ علّها تجمل صورة الواقع من دون تشويه، وبتجدد يُمَكِن الجميع من الاختيار في وصف صور المشهد وفهمها لفصل تنويري آتٍ، مشهد تتوارى فيه الكلمات فاسحة المجال للفعل، فكم عثرتنا الكلمات، وتوّهتنا، وضيعتنا عن جادة الطريق.
واقع التغيير يعرج بنا إلى عوالم البوح والدوح والجمال مسايراً لكل انفتاح، موظفاً موارد التباهي والتقنيات لخدمة الفرد باعتباره الإشكالية والمعيار الذي منه وإليه تصاغ كل التغيرات المرادة للتغير ونهضة المجتمعات.
محنة المسرح تقتضي المواجهة مع النمطية الثقافية، وأخذ الثقافة إلى بعدها الحقيقي والتوجه إلى تشكيل ورش وفرق مسرحية من الموهوبين في سياق فكري منهجي مرتبط بالواقع والحقيقة يشكل واقع المسرح ومسرح الواقع والحياة.
الكاتب : الأستاذة عائشة مصبح العاجل