17 أبريل 2018
الشارقة وعبق التراث
الدخول إلى سور الشارقة المجاور للموج والساكن في قلب الشارقة خلال أيامها التراثية هو الهروب من ضجيج المدن إلى عبق الماضي وتجليات التراث، فالمكان على صغر مساحته إلا أن الأسوار والممرات تسمح للقلب من مجاورة البيوت وتلمس جدرانها ومشاهدة صور حية لبيئات مختلفة تلتقي فيها المراكب التي تتهادى على الموج بكبرياء بالبيئة الزراعية وتفاصيلها وطريقة ري مزروعاتها ببيئة أهل الجبل وطقوسهم وعاداتهم، تلتقي بالفنون الشعبية المختلفة، بالأكشاك التي تعرض العديد من المأكولات من بلدان مختلقة.
كل هذا تمر عليه الروح وهي تستنشق ورد الماضي وبخور التراث العريق، في هذه البقعة من الشارقة تهرب النفس من الرتابة المعتادة وتعود بالزمن وتسترجعه لتعيش معه أجمل اللحظات بلا ضجيج ولا ضجر، ولذلك فإن تخصيص أيام من العام لعرض صورة حية عن جماليات الحياة في الماضي شيء مهم خصوصاً للجيل الحالي، فإقامة مثل هذه الفعاليات دليل واضح على ما تكتسبه من أهمية في إيصال الصورة الحقيقية للحياة التي من خلالها انطلق جيل متطلع إلى البناء عبر محافظته على قيمه وعاداته وتقاليده، معتزاً بهويته وتراثه، فأيام الشارقة التراثية التي يقيمها معهد الشارقة للتراث في دورتها السادسة عشرة بعنوان «بالتراث نسمو» هي حدث ينتظره الناس كل عام، ويدعو إلى التوقف والتأمل، فقد عشت مع هذه الأيام ومع تطورها الطبيعي وامتدادها الممنهج منذ أن كانت حدثاً سنوياً تقيمه إدارة التراث في دائرة الثقافة والإعلام إلى أن اكتسبت أهمية ارتقت بها إلى درجة أهلتها لأن تكون حدثاً ثقافياً واسعاً استظل بمظلة معهد الشارقة للتراث ليجد مساحة واسعة من الدراسة والبحث، فالفعاليات الكثيرة التي تقام على تلك المساحة الصغيرة في الحجم كبيرة في ما تقدمه من حياة يفوح منها عبق الأصالة وتجسد صوراً كثيرة متلاحقة عن بيئات متعددة.
ما يميز هذه الأيام أنها تجمع في هذه المساحة أعماراً مختلفة، وجنسيات متعددة، ولوحات حية متباينة وإن اقترب بعضها في الشكل إلا أن لكل لوحة نكهتها الخاصة، وهي بهذا تعرف الزائر على الزمان والمكان والإنسان في آن، وتشابك الحياة الإماراتية مع بيئات قريبة أو بعيدة نتيجة التواصل في الماضي مع ثقافات عديدة أثّرت وأثرت وأعطت وتعاطت بما لا يمس طبيعة المجتمع أو يخدش صورة حياته أو يشوه هويته.
وما يميز هذه الأيام أيضاً أنها تعرض التراث بصورة مبسطة وواقعية وحية تسهم بشكل كبير في إيصال الصورة الواضحة والحقيقية خصوصاً للطفل الذي يأتي مع أهله ليرى بعينه حياة الماضي وجمالها وبساطتها وعفويتها، وهي بهذا تحقق الهدف المنشود من وراء الحرص على إقامة هذه التظاهرة المهمة في دولة تسعى إلى ترسيخ مفهوم التراث والحفاظ على إرث الأجداد ضمن رؤية واضحة ودعم ورعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الذي يؤمن إيمانا عميقاً بما تمثله الثقافة للإنسان، وبأهمية دور التراث في الارتقاء بالبشر والعمل على ارتباطهم العميق بجذورهم وبعادات أهلهم ونمط حياتهم التي تكشف للآخر عن وجه مشرق وصورة ناصعة، والمتتبع للمشهد يجد حضور سموه الشخصي والدائم لمثل هذه الفعاليات ومتابعتها باستمرار، فالتراث بما يمثله من عادات وتقاليد وقيم وطقوس وغيره هو ما يمنح الأمم قوة وصلابة وفصاحة في الحديث عن نفسها وإبراز مكانتها وتأكيد كيانها وارتباطها بالأرض والجذور.
الكاتب : محمد عبدالله البريكي