14 مارس 2018
مدينتي
الوجوه التي تمر من تحت شرفتي والمتعجلة في رحلتها نحو ما لا أعرف، كلها موشومة بالمدينة، هكذا وبكل سرية أو سحرية أو ضمن إطار المعايشة، تتشكل العلاقة بين الشخص والمدينة التي يقطنها، تشتعل في الخفاء وربما في العلن أحياناً تلك الحرب بين المكان - المدينة - والإنسان الشخص القاطن والمأسور بوهج المدينة أو خفوت أوارها الذي يتقد صعوداً وهبوطاً.. تلك المدن تمتلك القدرة الكامنة في شواطئها أو شوارعها أو شكل عمارتها ولون أزقتها وطبيعة وملامح خفاياها المكانية الظاهرة أو القابعة في العمق في الأحياء البعيدة والعميقة في باطن هذه المدينة أو تلك، لكل مدينة سمتها الخاص وطباعها الوحشية والأسمنتية والموغلة في سلوكياتها المتعولمة أو عكس ذلك إذا كانت ما زالت متمسكة بخصوصيتها المتوارثة منذ نشأتها التي خلت منذ قرون طويلة، حينما كانت حنونة وغير متوحشة وتحتضن في تشابك إنساني قاطنيها.. وكانت تحنو عليهم بالأمان والطمأنينة والسكينة والروحانية التي تفتح أبواب وأقنية الدفء الساري ليشمل القاصي والداني.. الساكن والعابر والباحث عن ملاذ من الحنان والدفء.
العابرون.. المارون أسفل شرفتي، المسرعون تشتعل على وجوههم تضاريس مدينتي وشوارعها المشتعلة بالحياة والانطفاء في آن، ما بين الحركة والازدحام والاكتظاظ والتسارع اللاهث بكل الحركة التي لا نعي كيفية أوارها وإلى أين منتهاها أو حتى مبتداها.. هذا اللهاث المشتعل يواجهه اختباء الفرح وانطفاء البهجة فتبرز قسوة القلوب التي تصنعها مدينة تصب في القاطنين والعابرين سلوك التسارع المنتهي باللهاث نحو لا شيء سوى الجري نحو هدف غير مقصود ووعي غير مدرك.. الكل في هذه المدينة يجري.. يسرع في إثر الزمن الذي يندفع نحو تخوم نهايتنا بلا رحمة.
أطل من الشرفة ولا أتمكن من الإمساك، بالفرق بين الاشتعال والانطفاء في هذه المدينة التي تترك ندوبها في هذه الوجوه ووجهي أيضاً. المدينة تتمكن من محاصرة الملامح وأن تجمّد الوجوه وأن تسرق الدفء من القلوب والأرواح التي صرعت في لهاثها اليومي الباحث عن حتفه ومنتهاه.. هذه المدينة التي تقبع على شرفة البحر الواسع خدعت البحر وسرقت منه نوارسه القادمة من البعيد، والباحثة أيضاً عن الدفء، سرقت المدينة النوارس وجعلتها تقبع أو تطير في الميادين أو فوق أماكن خالية من الماء.
مدينتي التي أسكنها سرقتني من نفسي ومن سكينتي ومن دفء ما زلت أبحث عنه في الذاكرة.
الكاتب : الأستاذ عبد الفتاح صبري