عوالم ما بعد اللوحة

16 أبريل, 2018

جاءت أعمال الدورة الثامنة من «ملتقى الشارقة للخط العربي»، وهي تحمل هم فن يفاخر به العرب أمام العالم، ففي ذات الوقت الذي يتطور فيه هذا الفن، فهو يحافظ على الخصوصية والهوية، ولعل الأعمال التي جمعها الملتقى بشقيها، الأصيل والمعاصر، قد دارت حول هذا المعنى وطرقته بقوة، فالاتجاه الأصيل عمد إلى الحفاظ على الإرث الخطي وفق قوانين صارمة، بينما ذهب المعاصر في اتجاه الحداثة والمعاصرة، ليس بالقطع مع الأصيل ولكن بالأخذ منه والاستناد إليه، بحثاً عن عوالم ما بعد الحروفية، أو ما بعد اللوحة.
هنا تتماس فكرة الملتقى مع فكر الما بعديات الذي وسم عالم ما بعد الحداثة، لتكون قضية ما بعد اللوحة، وما بعد الحرف حاضرة بقوة من خلال ثيمة الملتقى الذكية «جوهر»، التي تنشد تحفيز الفنان جهة الحفر العميق في اتجاه الماهية، وعمق الأشياء، وفي الوقت نفسه تحرض مشاهد اللوحة على التفكير الخلاق في قراءة وتأويل العمل الفني، لتصبح العلاقة بين الفنان والمشاهد علاقة بين مبدعيَن تجمعهما اللوحة وعالمها الظاهر والخفي، فلئن كان الفنان يدخل إلى تكوين تلك العوالم بالفكرة والرؤية الفلسفية والجمالية والأدوات الإبداعية المتوفرة لديه، فإن المشاهد، أو القارئ يلج إلى العمل الفني بسلطان التأويلات المتعددة المستندة هي الأخرى إلى تجارب فكرية خاصة بالمشاهد. 
انصرف الفنانون إلى تمثل ثيمة الملتقى في أعمالهم «جوهر»، من خلال علاقة جدلية تفاعلية، فلئن كان «جوهر»، قد وضع الفنانين أمام تحدي الغوص والتعمق الفكري والجمالي، وصولاً لفكرة ما وراء العمل الفني، فإن الفنانين قد علموا على حشد رؤاهم الفلسفية من خلال خلفياتهم الثقافية والفكرية المتعددة، لكونهم ينتمون إلى بلدان مختلفة، ليشكل ذلك الفعل مضامين جمالية وفكرية في أعمال تبحث عن جوهر الأشياء، وقد اهتمت لجان التحكيم والنقاد في الملتقى بشكل كبير بالمضمون الفكري في اللوحات المعروضة، فقد كان من أكبر التحديات التي تواجه الفنان التشكيلي، هو أن يبلغ عمله قدراً من التجريد والنزعة الجمالية في الوقت نفسه، وقد مارس الفنانون في سبيل ذلك الهدف الكثير من التجريب والبحث والتعمق في التأمل من أجل الوصول إلى المعنى الكامن وراء العمل الفني. 
 
 
ولعل التطور على مستوى التقنية، قد انعكس على مستوى إنتاج مفاهيم وتصورات جديدة، في اتجاه عالم ما بعد اللوحة والعمل الفني، وقد ظهر ذلك في أعمال الملتقى عندما جاءت الأعمال المشاركة والخطوط المستخدمة، وهي تعمل جاهدة على أن تعكس إرادة الابتكار والتوظيف التقني، حيث استخدمت المرسومات الخطية والفراغية والرقمية والمفاهيمية في أعمال تنشد فكرة ما بعد الخط، أو ما بعد اللوحة، حيث عملوا على الكشف عن المعنى الكامن في العمل الإبداعي.
لقد استطاع ملتقى الشارقة في نسخته الثامنة أن يشكل منعطفاً كبيراً في تاريخ الخط العربي، عبر ثيمة الملتقى «جوهر»، من حيث الانتقال بهذا الفن، في سبيل تطوره إلى عوالم جديدة، ليصبح ملتقى للأفكار من مختلف أنحاء العالم، قدم فيه الفنانون من خلال هذه التعددية الثقافية والفكرية لوحة جمالية باذخة المعنى، وانصرف الفنانون والنقاد إلى إيجاد أفق جديد للخط العربي، من خلال الأعمال والأفكار المبذولة، التي وجدت إلهامها من ثيمة الملتقى، ليتأكد دور الشارقة بالفعل كمنصة فنية وجمالية عالمية.