التفاصيل

المُتروْحِن المفتون برفارف الجمال

26 يونيو, 2015

أزعم أنني من أكثر مُتتبعي التجربة الفنية الفريدة للفنان السوداني عبدالقادر المبارك، فمنذ أول المشاهدات تبيّن لي أن الفنان المبارك يمتلك جُملة من الخصائص الفنية التي يتفرّد بها، وخاصة ما يتعلق منها بالقدرة الاستثنائية على استخدام الأكواريل "الألوان المائية" والتي أفضت به لاحقاً إلى تنامي الذائقة اللّونية الأصيلة، ليكون الأكواريل رافعته الاستثناء في التجوال مع أُعجوبة الاختراع اللوني الأمريكي"الأكريلك".
 
المقدرة اللّونية الاستثنائية للمبارك ليست صادرة عن امتلاك معرفي وجمالي لناصية التكوين الأكاديمي فقط، بل أيضاً عن الدربة المديدة والشيِّقة التي تجعل منه أحد أكثر الفنانين العرب والأفارقة انسجاما مع ديدنه في التقدُّم بخطىً واثقة ورصينة في آن واحد؛ فدأبه على الاستمرار في الانشغال والإنتاج الفني المتنامي، يتوازى مع روحية متماهية مع غنائياته المشهدية الصادحة، فألوانه تنساب ضمن متوالية من التناغم الذي ينزاح في فضاء التجريد التعبيري المُوشّى بغنائية جُملة بصرية زاهية كقوس قزح. وتبدو تكويناته الواثقة موازية لمعادلة الثابت والمُتغيّر، وفي أساس الرسوخ القابل لتحولات لا متناهية. ومن هنا نستطيع إستجلاء منطق التحولات البصرية المُدوزنة بمقام الثبات.. النابعة أيضاً من وراء سديم الجمال للتجرية المنسابة حد الاحتياط.
 
تتماهى التمائم الفنية في جولة الفنان عبدالقادر المبارك، حتى إنك ترى التماوجات اللونية المُحايثة للفراغات الدالة، بجوار النمنمات الصادحة بالترانيم البصرية، والرقش المُعْتد بالتكرار التطهري الذي هو كالسُّلم الموسيقي الخماسي، والتقطيع المونتاجي المستأنس بلمعة البياض الناصع القادم من الخلفية المحايدة للّوح، بالإضافة إلى عناصر أُخرى كثيرة يمكن استجلاء أبعادها الذوقية بمجرد المشاهدة الأولى لأعماله.
 
هذه التعددية الأسلوبية القابعة في مدى الواحد الفني، أشبه ما تكون بصوفية الرائي "للجمع في عين الفرق"، وبمعنى التنوُّع في أساس الواحد ومركزية الفراغ، مما يُحيلنا مباشرة إلى تلك المنطقة السودانوية التي تمنح ابن النيل المثابة الرقيقة لثنائية "المدى المفتوح ودهشة الاحتشاد" المُكتنزتين بالتنوُّع الكبير، مما سماه فقهاء الاستقراء الذوقي المعرفي لثقافة أهل السودان بثنائية "الغابة والصحراء"، وأزيد على هذه الثنائية تعدديتها اللامتناهية النابعة من ثقافة "خُلاسية" بامتياز.. سمة الثقافة البشرية السويّة، والمُتجسّدة في السودان الكبير، كما لو أنها الحالة الفولكلورية القصوى في العالم.
 
في أعمال الفنان قدر كبير من هذه الثنائية التي تتماهي جبراً مع تعددية الأنساق، والتعبيرات النابعة من الما وراء البعيد .. هنالك حيث تحلق النوارس في رفرفات منتظمة برغم الانتشار العفوي لصفاء أجنحتها الباذخة. 
 
ينسج عبدالقادر مع  أعماله حواراً ثنائياً، منطلقاً من منصة راسخة واضحة المعالم، ليحلق في أثير الفراغ، مُتنكباً نعمة التحليق المحفوف بالتحديات والمفاجآت والمتاعب. أزعم أنه يستغرق في "ديالوج" الأنا واللوحة، متروْحناً ومفتوناً بومضات الدهشة في أعماله الملْحمية، مناجزاً رسالتها الفنية الجمالية.. مجدداً إنـتاج تجربته الفنية ذات الخاصية الأُسلوبية.
 
صوليست البُعد الثالث 
يختطُّ الفنان دروباً خاصة في تصوير أعمال المناظر المشهدية "اللاند سكديب" المنطلقة من فنيات البُعد الثالث، فالاحتشاد المُموّه بالتجريد والتعبير، قيمة أساسية في تلك الأعمال؛ فهو فيما يرسم المدن من منظور البُعد الثالث، يختزل مصفوفات المنازل، والأشجار، والسحب، والكثبان الرملية، والجبال المنتشرة، والسماوات الملوَّنة، بتجريدات تومئ لها ولا تلغيها، فيما تؤكد صيرورتها الأبدية، في سديم الفراغ المُوشّى بتقلبات الألوان المُحايثة "للزمكانية" اليومية لحيواتنا المتحوّلة تباعاً وجبراً. 
 
تلك الحالة التعبيرية التي تنساب في أعماله الكثيرة، تؤشر إلى تصالحه مع نفسه، بما يؤدي إلى تصالح مع الوجود، وانتماء لما يتجاوز المرئي بعدسات أعيننا القاصرة، والملموس بأنامل حواسنا الفاترة.
 
إنه يرى في المكان والزمان ما يُثري بروق دواخله، مُذكّراً بما قاله الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محي الدين ابن عربي:
رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق * ولو لاحَ غربياً لحنَّ إلى الغرب
وإن غرامي بالبروق ولمحها      *  وليس غرامي بالأماكن والتُّرب
 
تلك الحالة المفاهمية الذوقية تنبثق من تضاعيف لوحاته البانورامية الشيِّقة، فتتناغم الالتماعات الوامضة مع الدكونة الفارابية (نسبة  إلى العلّامة الفارابي صاحب رسالة الألوان)، القائلة بتعددية اللون الواحد، مع استلهامات "ديلاكروا" المشرقية، ولكن دون أن تفقد خصوصيتها الخاصة.
 
الفنان عبدالقادر عازف "صول" متميز للبُعد الثالث المشهدي .. إنه مثل "باغانيني" في عزف الكمان، لكنه يعزف بالألوان بدلاً من الآلة الموسيقية.
 
الحديث حول أعمال الفنان البانورامية لا يُستنفد في هذه العجالة العاجلة، ولعلني سأعود إليه في معرض تقديم أشمل للفنان الكبير عبدالقادر المبارك، ليقيني بأنها تجربة فريدة ومتفردة، وذلك بحسب مشاهداتي ومتابعاتي التشكيلية ذات الصلة بفنون البُعد الثالث وألوان الأكواريل.
 
سيكولوجيا البُعد السادس في البورتريت! 
في أُفق آخر نتوقف أمام فن البورتريت  المرسل في الصورة القريبة والمتوسطة، وبذات الألوان الأثيرة عند الفنان، وبروحية المُلوِّن المتحرر من إكراهات واشتراطات الفن الأكاديمي، والمنطلق صوب التعبير غير المُناكف لما هو أكاديمي ومعياري بالضرورة.
 
هنا سنلحظ الإمعان في فن الاختزال اللّوني،  والبحث عن القيمة التعبيرية النفسية؛ حيث تنعكس سيكولوجيا الشخوص على خوارزميات الألوان المُموْسقة بقوانينها الخاصة، فكل حالة للتصوير المقرون بالبورتريت هي حالة نفسية بذاتها، وتومض بإشارات لبُعد آخر يبوح بها المرسوم؛ كأنه يقول لنا كما قال ابن الفارض:
ملأتَ جهاتي الستَّ منك فانت لي * مُحيطي وأيضاً أنت مركز نُقطتي
 
والشاهد أن خروج الفنان عن قيود الطول والعرض والعمق، يتنامى في أساس التجريد، والمناورات اللونية، والمسحة السيكولوجية التي لا تتوقف عند تخوم البورتريت فحسب، بل تتواصل مع تجربته المميزة في لوحات البُعد الثالث.
 
وأخيراً وليس آخرا، أود الاشارة إلى أن زيارةً انساقت مع الصدفة الفلسفية والضرورة الوجودية، جمعتني به في بيته لأقف في رابعة من زمن قصير على بانوراما أعماله المتراكمة والمُتجوْهرة في القيمة الفنية الرفيعة لتلك الأعمال .. قديمها وحديثها، وأذكر أني تمنَّيت عليه أن تنتظم تلك الأعمال في معرض استعادي شامل، وأن تكون تلك المناسبة مدخلاً للحفاظ عليها.
 
تلك المشاهدة منحتني فرصة الاقتراب من عوالم الفنان وعطائه الثر، وما سطرته هنا ليس إلا بعضاً من كل.
 
أقف مع هاتين المحطتين من تجربة الفنان عبدالقادر المبارك، تاركاً تداعياتٍ أبعد لمشاهدي أعماله، الذين لهم واسع النظر وحسن الفطنة في استكناه جوانب اخرى لتجربة الفنان عبدالقادر المبارك.