الخط.. الجمال المحلق

16 أبريل, 2018

 
أكثر من 100 خطاط، يشاركون في معرض «الأصيل» في الدورة الثامنة من «ملتقى الشارقة للخط العربي»؛ (جوهر)؛ حيث يعرضون فيه نماذج مبهرة من الأعمال واللوحات، التي تتجلى عناصر الأصالة فيها في اتباع قواعد الخط المعروفة في معظم أنواعه كالنسخ والثلث والجلي والكوفي والجلي الديواني وغيرها، كما تبرز في اعتمادها الآيات القرآنية بدرجة أولى، تليها الأحاديث النبوية، ومن ثم الأمثال والحكم، التي تعكس القيم الأخلاقية والتراثية، التي يعتز بها العربي والمسلم في كافة أنحاء المعمورة، غير أن ما يشكل ثيمة مشتركة في معظم هذه التجارب الإسلامية، هو تركيزها على فن الزخرفة الإسلامية، هذا الفن الذي يعود إلى بواكير عهد الخلفاء الراشدين.
 
بهذا المعنى، يشكل معرض «الأصالة» صياغة شكلية لفن إسلامي عريق، يذكرُ بما سبق رصده في كثير من التجارب الرصينة، التي تؤكد أن الخط العربي، ليس مجرد كلمات وعبارات وأشكال فقط، وإنما هو يجسد جهداً، واجتهاداً منقطع النظير، يبذل فيه الخطاط عصارة ما تلقاه من أفكار ومضامين بشأن روحية ما يصدر عن هذه الخطوط، وما تعكسه من ألق، وما تمثله من أبعاد فنية وجمالية تلهم إبداعات وخيالات الخطاط وتراهن على فرادة هذا الفن، الذي يبتعد عن التصوير والتشخيص نحو منطقة روحية خالصة، تخاطب العالم بمنظور يرسخ قيم الوجود، ويعيد للإنسان براعته في تلمس هذا الوجود، بما يحفل به من معان ودلالات ورموز تلتقي على فكرة «التوحيد».
 
الزخرفة الإسلامية في الخط، هي إحدى سمات وركائز هذه الأصالة؛ بوصفها من حيث المضمون -كما يقول النقاد- «تعبر عن وحدة تتماسك بها سمات الجمال مضموناً وشكلاً»، سيما وأنها من حيث الممارسة، تعد فناً يُعنى بتلك الأسس والجذور المستلهمة من الدين والتقاليد، وهي تعكس - من دون شك- نوعاً من العلاقة الجامعة، والحميمة بين فن العمارة، وما فيه من جماليات، والدين الإسلامي ذاته، وما فيه من تعاليم وسبل تحدد علاقة المسلم بخالقه.
 
ما يعكسه المعرض، ويبدو راسخاً عند معظم الخطاطين المشاركين في الملتقى، هو الحرص على إبراز حرفية الخطاط في الإتقان، فالخط الثلث وكذلك النسخ، والجلي من بعدهما، هي من الخطوط التي تشكل قواعدها المعروفة عند الخطاط، ركيزة أولى في الإتقان، هنا، تتجلى براعة الخطاط في كتابة الخط على أصوله، بعد ذلك تأتي فنون الشكل، التي بمجموعها تعد ملهماً آخر للفنان، فالوحدة الزخرفية عند الفنان المسلم، تعد مجالاً يكتشف من خلاله مهارته في التزيين، وقدرته على نسج علاقات، تشكل في مجموعها بُعداً تكوينياً للوحة الخط، هنا، تبرز أنواع لا حصر لها من الزخرفة النباتية، والهندسية التي تظهر في الأشكال والمضلعات النجمية، وتظهر في نهاية المطاف أثر العقيدة الإسلامية.
 
وعند كثير من الأعمال المشاركة في المعرض تقع عين المشاهد على تجارب ومشاركات خطية لا حصر لها، تجسد فنون الزخرفة، التي تبرهن على أن فن الخط، هو فن أصيل، وتنبثق منه رؤى جمالية، تخاطب الأرواح والعقول، وتتفاعل مع جماليات الراهن والعصر الذي نعيش فيه.
 
في إطلالة على بعض التجارب المشاركة في معرض «الأصيل» نكتشف مثل هذه الخصائص، التي يتميز بها الخط العربي، الذي ينبثق من الحرف العربي، الذي هو بشهادة المؤرخين وكثير من المستشرقين «من أجمل حروف لغات الدنيا» ثم هو إلى جانب ذلك، حرف اختزالي، وفي الاختزال، هو يوفر في الوقت والمساحة معاً، هذا علاوة على ما لدى الحرف العربي من قابلية المد، والمط، والاستدارة والرجع بما تتميز به الكتابة العربية من حركات كالفتحة والضمة والكسرة والحركة، التي تشكل علامات على سطوع نجم الخط العربي واحداً من الفنون العالمية، التي أثرت في غيرها من خطوط ولغات العالم.
 
عباس بومجداد من السعودية يخط لوحة «يا رحيم» بشكل متناظر بالحبر الأصفر، ويخط عبد الرحمن العبدي من سوريا «حلية» على ورق هندي باستخدام حبر ياباني، أما الباكستانية صبا جافيد فتخط «البسملة» على ورق ملون ملصق، فتبدو لوحتها غاية في البراعة من حيث الشكل واللون والمعنى، ومن اليابان تشارك رابعة أمجد في كتابة «آية الكرسي» على حبر مذهب، فيما تخط الإماراتية فاطمة الضنحاني «واسجد واقترب» باستخدام حبر الشيمنك، ويستخدم الخطاط العراقي حاكم غنام أبياتاً من الشعر بخط كلاسيك مستخدماً الأحبار مع ذهب خالص.
 
براعة «الأصيل» تبرز كذلك عند الخطاط التركي فاتخ اوزكافا، في لوحته «توحيد» التي ينجزها باستخدام الحبر والذهب على ورق مقهر، كما تبرز عند الخطاط المصري بلال عطية في الآية القرآنية «يوم لا ينفع مال ولا بنون» على ورق طبيعي مقهر باستخدام حبر الشيمنك.
 
وفي المعرض تشكيلة من التجارب التي تبرز مهارات لا حصر لها من براعة الخطاطين، كما هو عند عبد الرحمن كولين من المغرب الذي يخط «خير الناس أنفعهم للناس» بالثلث الجلي من نوع مغربي متراكب، وقد كان الثلث الجلي حاضراً عند نهاد دخان من فلسطين الذي يكتب «والآخرة خير وأبقى» باستخدام الحبر على ورق مقهر، كما هو في خط الثلث عند العراقي لواء السامرائي في لوحة «الحب جوهر» من الورق المقهر والحبر التقليدي.
 
البحريني علي شهاب يستخدم خط الشكستة في لوحة «سورة الفاتحة» باستخدام الحبر على ورق، وتستمر روعة فنون الخط الأصيل عند السورية جميلة عوض في لوحتها «جوهر النساء» على ورق يدوي وذهب، وأيضاً عند الأردني محمد أديب الذي يكتب مقولة «شرف المكان بالمكين» على حبر وورق طبيعي، وكما هو الخطاط محمد فاروق الحداد من سوريا في «أولى لك فأولى» باستخدام زخرفة إسلامية رائعة، وأيضاً كما تبرزه لوحة التونسي عامر بن جدو «إنما أنا رحمة مهداة» بالحبر الصيني على ورق صقيل مصبوغ بالشاي الأحمر.
 
ما أشير إليه من التجارب وغيرها الكثير في معرض «الأصيل» تبرز كما قلنا أهمية الزخرفة التي كان لها شأن كبير، في ظل الإسلام؛ بفضل القرآن الكريم، كما تبرز إبداعات وجماليات الخط العربي، الذي لم يكف كثير من المستشرقين الغربيين على مدحه، فقد سبق للمؤرخ أرنولد توينبي أن كتب في هذا الشأن «لقد انطلق الخط العربي، الذي كتب به القرآن معلماً مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة البعيدة، وأينما حل أباد خطوط الأمم المغلوبة، إن هذا العالم الإسلامي الذي امتد من بلاد ما وراء النهرين في تركستان شرقاً إلى المغرب الأقصى بشمالي إفريقيا غرباً، قد أنجب عدداً لا يحصي من أهل هذا الفن الخالدين، الذين تركوا على صفحات العصور، ما حافظ على الطابع الإسلامي في هذه الرقعة الفسيحة من المعمورة».
 
يبرهن «الأصيل» على تراث إنساني وجمالي من فنون الخط العربي، التي تبرز قيمة وأثراً وجوهراً، في أشكال خطية معروفة، وتجارب عابرة للقارات، أبدع فيها مخيال الخطاط العربي والمسلم، تحفاً نادرة، تشكل في مجموعها مقترحاً قيمياً وجمالياً، تدل على عبقرية استثنائية تضيف لأبجدية الفن الإسلامي وعبقرية الخط المستمدة من إعجاز الكلمات، وما تفيض به من روحانية تسمو بالنفس وترتقي نغماً ورؤية ونوراً ومعنى.