المعرفة.. وأزمة الثقة

01 أكتوبر, 2017

 
الحياة بمحركاتها تدفعنا لاتخاذ مواقف تُحيلنا لفاعلين فيها، وموجهين فيما بعد لعجلة محركاتها، وليست وحدها الظروف أو ما نجبر عليه منها تحديداً؛ وإنما هي تجاربنا وخبراتنا ومعارفنا ومعلوماتنا التي تعجن سوياً لخلاصة الفعل الذي نقوم به أو القول الذي نتفوه به. 
كما نتعرف إلى أنفسنا من خلال المعلومات والمعارف، ومن خلال ما نعايشه ونكتسبه من المواقف والظروف؛ نتعرف إلى الآخر، وتنشأ بيننا وبين أنفسنا ثقة بالمعلومة والمعرفة والقدرة على اتخاذ القرار، ووضع مؤشرات للقادم، وتتبع السبل التي توصلنا لما تصبو إليه أنفسنا، وتهفو إليه تطلعاتنا، وكذلك مع الآخر، فالثقة التي تتكون مع الوقت تجعل الجسور التي توصلنا للآخر مدعمة بالمواقف، ومُصَلبة بالخبرات.
 
الثقة تعني في اللغة الائتمان، جاء في لسان العرب «وثق به ائتمنه»، وفي القاموس وثق به كوَرِث ثقةً وموثقاً ائتمنه، ولقد اختلف العلماء في تعريفهم لمفهوم الثقة، حيث عرف البعض الثقة بأنها: جزء من النسيج الاجتماعي والمعرفي في أي مجتمع، كما تشير العديد من الأدبيات إلى أنها أحد أهم مكونات رأس المال الاجتماعي، وتُعدُّ الثقة علاقة تفاعلية وبناءً تنظيميّاً مُعقَّداً بين طرفين أو أكثر، حيث تنشأ من الحاجة الملحة للتفاعل مع أفراد المجتمع، وما تتطلبه هذه العلاقة من الاعتماد على الآخر لتحقيق مصالح أو أهداف معينة، وحتى تنشأ هذه الثقة لا بد أن تكون العلاقة بين الطرفين عامرة بالمعرفة، فالجهل ينزع الثقة ويقوض العلاقات، وتعرف الثقة بأنها الوثوق أو الاعتماد على قدرة أو مشاركة شخص ما.
 
يُركّز مؤشر المعرفة على العلاقة الحيوية بين المعرفةِ والتنمية لمواكبة التطورِ المستمر في العالم، وحسب آخر تقرير لمؤشرات المعرفة العربية للعام 2016 فإنه يرتكز على القراءة وعلى أهميتها كأداةٍ للحياة اليومية في المجتمع المعاصر؛ باعتبارها السبيلَ الأمثل لتطوير قدراتِ الفرد ومهاراتِه، ودعمِ جهود الابتكارِ والإبداعِ والتطوير.
ذلك أن القراءة هي السمةُ المميّزة للشعوب المتقدّمة، ونافذةُ العقل على المعارف التي أصبحت مشاعة في فضاء العالم وتحتاج لوعي وتمحيص للاستفادة منها؛ وإلا أصبحت سلاحاً نافذاً لطرق الضلال وللتيه والدمار الشامل، لنسف منظومة الإنسان العقائدية والخلقية وانتماءاته الإيديولوجية، ولتقويض العلاقات البينية والضمنية بتراكيبها وتغيراتها المستمرة.
والقراءة مرتكز أساسي للتعلّم، وأداةُ الإنسان لفهم ذاتِه ومحيطِه، ومواجهةِ مختلف التحدِّياتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، والسياسيةِ والتنمَوية بأساليبَ فعّالةٍ ومستدامة، والمعرفة عمادُ التّنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة، ولا بد من وجود رؤية واضحة حول الاستراتيجيات وآليات النّهوضِ بالأداء المعرفيّ وتوظيفِه لأغراض التّنمية المنشودة، وكلاهما تحقيق أكيد للثقة بالنفس والمحيط والآخر، وفرصة للتعرف إلى الحيوات التي يتطلع إليها الإنسان بمجهوداته نحو معيشة مثلى، وتحقيق أكثر للطموح والآمال للأجيال القادمة .
 
ولأن المعرفة والتعليم يحققان الثقة بمستوياتها العليا بالشخص وذاته وإمكاناته، وفي واقعها تعني الثقة القناعة المتكررة بصحة الشيء وصدقه وموضوعيته، وهي تأتي من تكرار ثبوت صحة الشيء، وتذهب وتنعدم من تكرار العكس، وترتبط بمؤشرات المعرفة والمعلومات المتوفرة ونسبتها، فهي علاقة طردية وحتمية متى زادت المعرفة وثبتت المعلومة ارتفعت الثقة وتجسرت الصلة، سواء في ذلك الثقة بشخص ما أم جماعة أم قيادة أم مبدأ، فحتى تتحقق الثقة بمفهومها الصحيح، لا بد من أمور ثلاثة، وهذه الأمور: الواثق والموثوق به، والأمر الثالث تكرار ثبوت الصدق والصحة بالبرهان على الموثوق به، وتكرار ثبوت الصدق وصحة البرهان إلى أن تصل إلى درجة عالية من الصدقية، فإنها توجد الثقة التي يصعب زعزعتها مهما علت وتيرة الشك والتشكيك، وذلك لكونها بنيت على البراهين العقلية، إضافة إلى الشعور، هذا هو الذي يجعل الثقة بعيدة عن التفكك والتخلخل.
 
ومفهوم الثقة أمر ضروري في حياة الفرد والمجتمع في سيرها ونهضتها، والحفاظ على كيانها ووحدتها، ذلك أن الثقة تعزز مفهوم الطاعة والانضباط والوحدة، وزعزعة الثقة تؤدي إلى الخلل في كيان الأمة والدولة والمجتمع، والخلل يؤدي إلى الانقسام والتشرذم والتفكك.
 
كما تفيدنا الثقة بأنها تعزز لدينا احترام الذات واحترام الآخرين، وتفيدنا المعارف والمعلومات في تعزيز الثقة وفي الوصول إلى الالتقاء مع الآخر ومع أنفسنا بموضوعية وشفافية وبالبرهان.
 
ففي عالمنا العربي نحظى بمستوى عالٍ من المعرفة والقراءة والتعليم، في مقابل مستوى متدنٍّ من الثقة بالذات والمعارف والمحيط والآخر، وذلك رغم الالتقاء الثقافي والفكري إثر المؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من فعل زخم تشهده المنطقة. ومعارض الكتب التي أضحت عبارة عن مهرجانات متنوعة للمعرفة والثقافة ولبيع الكتاب وعقد الصفقات من أجل حقوق الملكية الفكرية وغيرها من المشاريع خدمة للكتاب والقراءة والتعليم، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يحقق كل هذا التفاعل التوازن المطلوب في معدلات تحقيق الثقة والمعرفة.
والنتيجة غالباً تتبع مرتكزاً مهماً وهو الوعي بالمنظومة المعرفية ومعطياتها والمواعين التي تشغلها وفرص تعرض الفرد لها، ومردود هذا التعرض والاستفادة سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون وعي. 
 
إن ما نشهده اليوم من عزلة وتشرذم ومشاكل تتمثل في الانفصال والقطيعة وغيرها - رغم أننا نعيش في عالم المعرفة المشاعة- مرده الأساسي عدم الوعي في كيفية استثمار الوعي المعرفي وكيفية التعامل مع المعارف المستقاة وكيفية انتقاء المعرفة، ولذلك يعيش عالمنا العربي في فوضى عارمة، نقيض ما توصلت إليه مؤشرات المعرفة العربية العالية وما توصل إليه الإنسان من سبل لنيل المعارف والمعلومات. 
توفر الإمكانات لا يغني عن توفر الوعي لتصريفها، وللأسف الفرد في مجتمعاتنا يملك الأولى ويحتاج للوعي لإدراك الامتلاك ثم التعامل مع ما يملك لإحداث التغيير الإيجابي.