مشاعر الأمكنة

03 أغسطس, 2015

* أحياناً يحتاجنا المكان.. يحتاج بشراً يهديه. فللأماكن حيوات ومشاعر ورؤية وتواشج مع من يعيشه أو يمرّه.
هل شعرت مرة ببكاء المكان؟ أو سمعت نشيج أوصاله تبكي حالاً أو أهلاً غادروا؟
 
 المكان يشعر بنا.. الحيطان تأنس بنا حين نكون في أحضانها.. تتدثر بنا وتأوى إلينا.. تشتكي غدر وقسوة الطبيعة، فتلين من الخارج لنقوش المطر والريح والشمس، ليسطروا عليها تاريخ: من عبروا وأحبوا واقتتلوا وغدروا وتآمروا.
 
الأماكن تئن وتفرح، في البيوت رفوف تتدلى فرحاً تنتظر ماجنته أيدينا؛ لتحتويه كنزاً تتدثر به، وتعتمر به ضد الفراغ الذي لم تخلق له. في البيوت شرفات تنام فيها أرواحنا العطشى؛ للهروب إلى البعيد. والشرفة ذاتها هي قطعة ناتئة تحاول البهجة والضحك بعيداً عن اختناق الداخل.. الباب سرُّ من أسرار التحليق والتسوير الغافية بانتباه لحراسة من بالداخل، وأحياناً لمنعنا للانسراب إلى الخارج، كان الباب الكبير للدار يمتثل بحب لأوامر رب الدار، والدي المهاب المطاع، حتى من جمادات المكان ومفاصلة.. كان يأمره ألا نغادر ليلاً.. فيتأبي علينا وتستعصى مزالجه.. الباب الكبير يؤمر فيطيع.. ونحن البشر الصغار نمتلك روح التمرد والتحايل، فندعه في امتثاله.. ونتسلق وأخى الجدار عبر شجرة العنب الحانية التي لم تمانع أبداً في مساندة خيانتنا، ونقفز خارج الدار، والباب الكبير يندهش خوفاً منا أو علينا.
 
النوافذ مسارب لهروب الروح لفضاء ملتهب بالحرية، وعناق النفاذ من عتمة الداخل الصارمة الواقفة بتحدٍ لأي إعوجاج أو ترهل. حين نهل في المكان الجديد، يتأهل بفرح ويتزين بألوانه للقادم السعيد، الذي سيأنس به ويتواشج معه، ويهطل فيه، فتتمدد الجدران، وتتسع لفرحة المعمار وألوان البهجة.. حتى تتآلف الأحجار مع الأنفاس.. ويصبح لكل نفس مقابل، ولكل حجر جزء من الدفء المنبعث من أعماق الإنسان.. وحين يغادر.. تنتحب وتتآكل وحين تكل الحيطان من احتواء البشر، تلفظهم خارجها، تبدأ مرحلة أخرى من حيوات هذه الجدر التي تتهالك؛ لتأوى مَنْ هُمْ أجدر من البشر الذين نكثوا العهد والذكرى، وغادروا  المكان غير أبهين لمشاعره أو ذكرياتهم المشتركة حين فرحوا سوياً.. أو حزنوا سوياً..
 
تنفتح الجدر برحمة للفئران والثعابين، وتتحول المكامن للوطاويط والبوم.. وتصبح السقُفُ عرشاً للعناكب المتوقدة بالحركة، رحمة بأرواح أخرى غير بشرية؛ علها تحفظ الود والعهد.
 
حين أذهب إلى هناك.. وأراني ممدداً على الجدار تحوطني العناكب، وتتقافز حولي الفئران.. فأفسح لها كي أتأملني حين كنت أتقافز بأول طبشورة عُدْتُ بها من المدرسة لأخط خرباشاتي بعرض الجدران كلها، وتخيلت شخصيات مازلت أذكر أسماءها الغريبة، وأشكالها الأغرب، واقنعني أهلى أني رسّام، وكانوا يصرّون على كل من يزرونا أن يدخل إلى مرسمي، ويتيهون فرحاً بي وهم يشرحون لهم أسرار شخصياتي كما وعوها.. الجدار الذي تحول إلى مزار كان أيضاً فرحاً بي وبزواره.. ولكن الأغرب حين غضب الجدار علىّ، فسحب مني فضيلة الرسام، ولفظني إلى غير رجعة.
 
جدراني المتهالكة هناك حين ألتقيها الآن، تضحك مني وتبكي علي.. وعلى خيباتي، وترفض بكل قسوة أنْ تهطل في لأني تركت طهارتها ودفء برودتها.. وحنان؛ طينها الطهور، وذهبت بعيداً عن لحظات.. جمعتنا بشقاء وحب، وعنف وحنان؛ ولكنها كانت حيوات مكتنزة بدفء الأهل والجدات، وطعم القهوة المصنوعة في المكان، ورائحة التوت والعنب والحنطة ورغيف الخبر الساخن، وندى الصباح المطل على إنسان بسيط ترك عنانه لله وللحب.