موتسارت

04 أغسطس, 2015

قبل الحديث عن المؤلف الموسيقي والفنان البارع موتسارت من المناسب التمهيد لحديث عن الموسيقى الكلاسيكية التي كانت وما زالت تثير تساؤلات خاصة في الثقافة العربية، وتنتمي جُل هذه التساؤلات لنوع من التباعد المفاهيمي الذوقي عن هذا النمط من الموسيقى العالمية ذات القيمة الخاصة بالمعاني الأكاديمية والتطبيقية، باعتبار أنها موسيقى توليفية مُركَّبة .. متعددة الأبعاد ، وحاضنة لأنساق واسعة من القيم اللحنية والتعبيرية.
 
علماء جمال الموسيقى يسمونها الموسيقى الصافية النقية.. استناداً لكونها موسيقى مجردة لاعلاقة لها بالكلام، كما هو الحال بالنسبة للانشاد الكنسي والغناء بشكليه الفردي والجماعي( الكورال).. لكن تجربة الموسيقى الكلاسيكية لم تستبعد الصوت البشري، بل وضفته في مستويات تعبيرية متنوعة، ومن المشهود أن الصوت الكورالي المجرد والخالي من المعاني القاموسية للكلمات مثَّل ويمثل إضافة جوهرية في المعزوفات الكلاسيكة الكبرى، والتي اعتمدت دوماً على الفرق الاوركسترالية الكبيرة، مُشيدة تلك الصروح الباذخة للتوليف والتأليف والأداء والتعبير، مما يمكن مشاهدته ومتابعته عبر مسارح الكونسرفتوار العالمية، ومن ابرزها وأعلاها شاناً مسرح البولشوي الروسي التاريخي.
 
في مسرح البولشوي الروسي يتم تقيم الأعمال الملحمية الموسيقية الكلاسيكية، وخاصة مؤلفات الموسيقي الروسي تشايكوفسيك صاحب ملحمة "بحيرة البجع"، كما تنتظم ذات المسارح في كبريات المدن الأوروبية والامريكية، وتجد لها حضوراً نسبياً في اوبرا القاهرة، والعناية الخاصة في سلطنة عمان، والتجربة الجديدة في ابوظبي من خلال الإذاعة الخاصة بالموسيقى الكلاسيكية، والحفلات الموسيقية ذات الصلة.
 
استعادات وامضة
قبل حين مهَّدت للحديث عن الموسيقى الكلاسيكية على النحو التالي: 
قبل الحديث عن أي قامة موسيقية كلاسيكية من الضرورة بمكان تعريف تلك الموسيقى، انطلاقاً من دلالة التوصيف وكُنه الكلمة، وسيكون من موجبات التحديد التعريفي القول بأن هذا التصنيف والتوصيف لا يخص الموسيقى فقط، بل يشمل كامل الفنون الأكاديمية الرصينة التي بدأت تباشيرها الأوروبية في القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين، وفي أوروبا المتوسطية تحديداً، الوارثة لثقافة الامبراطورية الرومانية البيزنطية، والثقافة العربية الإسلامية أيضاً. وشاهدُها المكاني على ذلك أسبانيا وإيطاليا والبرتغال، واليونان، وما يحيط بهما من تخوم وجزر وامتدادات. تلك الثقافة ازدهرت تباعاً حتى تخوم القرنين السابع والثامن عشر، مُتخذة أشكالاً متعددة؛ بل إن التوصيف الأول للكلاسيكية الفنية تنامى لنشهد الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية، حتى الحداثة التي بدأت تطل بتنويعاتها المتنوعة، منذ القرنين التاسع عشر والعشرين".
 
الكلاسيكة لم تكن صفة نعتية للموسيقى فقط كما أسلفنا، بل شملت فنون العمارة والتشكيل والآداب، أي أن تلك الصفة شملت كامل الفنون المعروفة، سواء كانت ذهنية مجردة، أو تطبيقية مشهودة في صروح البناء، ومشهديات الطبيعة المُصوغة بتدخل الإنسان، كما هو الحال في فن تنسيق الحدائق، وعلى سبيل المثال لا الحصر.
 
إطلاق تلك الصفة على الموسيقى الكلاسيكية يدخل في باب التوصيف والتصنيف النمطي الإجرائي للموسيقى، استناداً إلى أبرز ملامحها وخصوصياتها، ودونما إلغاء للتفرعات الداخلية في أنماطها، حتىإننا نستطيع تجيير صفة بذاتها على كل اسم من الأسماء المعروفة من مبدعي هذا الفن الرفيع، ومنهم شوبان وفيفالدي وبيتهوفن وشوبرت وباخ وموتسارت وتشايكوفسكي، وغيرهم.
 
الآداب الأوروبية التي أصَّلت لفنون التاريخ الأوروبي ابتداءً من الأغارقة، هي التي حولت هذه التسميات إلى لازمة توصيفية وتصنيفية للفنون المختلفة، وقد رأينا ذات التسميات وتعميمها الإجرائي، بل والأكاديمي، على آداب التصنيف العالمي لهذه الفنون. وهنا لا بد من القول إنه ليس مهماً التوصيف والتصنيف إلا بقدر كونه سبيلاً لتسهيل قراءة واستقراء الركام الكبير من العطاءات الفنية والأدبية في مختلف حقول الإبداع والمعرفة، وقد يكون لهذا التوصيف أهمية استثنائية في بسط تاريخ تلك الفنون، ومعرفة خصوصياتها وأدواتها التعبيرية، وملاحظة البيئة التي أفرزتها، والحوامل الثقافية التي كانت محددة لمعالمها ورواسخها.
 
ما أود التأكيد عليه أن الناظم الأكبر لكل هذه الأنواع ينطلق من نفس المقدمات، ويأخذ بذات المعايير، مع ملاحظة التفارق المؤكد بينها، فالموسيقى صادرة عن مركزية النغمة، والتشكيل صادر عن مركزية اللون، والمسرح صادر عن مركزية الكلمة، والعمارة صادرة عن مركزية البُعد الثالث الواقعي المشمول بمادة البناء.. والسينما صادرة عن مركزية الكاميرا، وهكذا.
 
غير أن هذا التفارقات المؤكدة في المدخلات لا تمنع من التناص والتراسل المؤكد بين هذه الأنماط الفنية، مما يستحق بحثاً واسعاً بحد ذاته.
 
نعود إلى التسمية لنكرر أن هذه التسمية لا تشمل الموسيقى فقط، بل الفنون والآداب المختلفة ، وأنها تسمية أوروبية بامتياز، وأنها تحولت إلى دلالة شاملة تطاول الأنواع الفنية والأدبية؛ وقد جرت العادة على اعتماد تسلسل "كرونولوجي" يضع الكلاسيكية قبل الكلاسيكية الجديدة والرومانسية، وقد سرى الأمر أيضاً على الشعر العربي، فشعر الإحياء النهضوي الذي تربع في صدارته أحمد شوقي، تحوَّل تباعاً إلى الكلاسيكية الجديدة، ثم الرومانتكية، وحتى الوجودية، بحسب تلك الإشارات اللماحة للشاعر المُفكِّر الدكتور عبدالعزيز المقالح، في مقاربة له حول مثابة أحمد شوقي في الشعر العربي المعاصر. وما ينطبق على أحمد شوقي ينطبق على مجايليه الإحيائيين، ومن تبعهم بإحسان على درب الشعر والشعرية، ومن هنا نلاحظ معنى الكلاسيكية أو الأكاديمية أحياناً، في توصيف الفنون والآداب.
 
تالياً واستتباعاً.. ليست الكلاسيكية الموسيقية مقطوعة الجذر عن فنون الموسيقى الشعبية الفولكلورية، فالمنابع الشعبيىة للموسيقى شكلت رافداً من روافد الأعمال الملحمية الكلاسيكية؛ غير أن فن الموشحات الدينية الكنسية الأوروبية كان بمثابة الرافد الأكبر، لجهة "الكورال" القائم على تعاضد الأصوات وتكاملها في بُعدي "الهارموني والكونترابنكت"، أو "التناغم والتضاد"، وهو ما جعل أصوات الكورال "الإنشاد" المتعددة، سبباً في متواليات موسيقية متعددة أيضاً.. أقصد تحديداً ما يلي: الصوت "الصولو" مقابل العزف "الصولو"، والكورال المتناغم مقابل الوتريات المتناغمة، وتبادل القرار والجواب الكورالي، مقابل "الكونترابنكت" النابع من مزاج الوتريات والإيقاعات وآلات النفخ.
 
هل لنا أن نقول إن هذه التراسلات الإبداعية الحميدة والمُضنية في آن واحد، يمكن تبيُّنها في علاقة الأصوات بالموسيقى المجردة، كما تشي ضمناً باتصالات موازية في فنون التشكيل والعمارة؟
 
مما لاجدال فيه أن هذه العناصر بجملتها تنطلق من ذات القوانين الناظمة للفنون، سواء كانت موسيقية أو بصرية أو إنشائية، وحتى كتابية.
ولعل النص المكتوب شاهد كبير على التماهي الإبداعي بين الفنون المختلفة، ذلك إن تحرير النصوص في المطبوعات المختلفة يوازيها تحريرٌ بصريٌ "إخراجيٌّ" يكون بمثابة الضابط لجمالية الشكل في مستوى الصفحة الواحدة، وكذا الانسياب البصري لعديد الصفحات في ذات المطبوعة؛ ما يمكن تسميته دون أدنى حرج بالموسيقى البصرية، التي تنساب كشلالات الدفق الهارموني للموسيقى الكلاسيكية.
 
 الرباعية الكلاسيكية
تتألف الملحمة الموسيقية الكلاسيكية من 4 حركات تبدأ بالتهميد الغنائي العام .. ثم التسارع ، فيعقبه نوع من التراجع المُمهِّد لقفلة الختام، وبعدها ياتي الختام، كما لو أنه تتويج منطقي لما سبق .
 
آلة الكمان عادة ما تلعب دوراً مركزياً في الغزف المنفرد "صول"، فيما تتواشج مع بقية الوتريات مثل آلتي التشيللو والكونتراباص.. علماً بأن هذه الأخيرة تمثل الضابط الإيقاعي لكامل الورتريات المتصاعدة عزفاً وتناغماً.
 
من ميزات آلة الكمان أنها فريدة المثال في مناوراتها العزفية التصاعدية، والتنازلية أيضاً، وكذا التنغيم الحُر الذي حيَّر المدونيين لجملتها الموسيقية، وهي بهذا المعنى أقرب إلى العصفور المغرد وسط صخب الغابة العامرة بالطيور.
 
في الحركة الثانية عند موزرات.. كثيراً ما نجد أنفسا أمام تصادمات جمالية "كونترابنكت" بين الوتريات المختلفة، كما لو أنها مسار لمعزوفة كبيرة تتوازى مع حركتي المد والجزر المتناوبين، ففي الوقت الذي يتمفيه التناغم "الهارموني" بين الوتريات.. تلجأ الوتريات البعيدة إلى الرد على شلال الالحان المتدفق.. بحثاً عن قيم تعبيرية درامية، وعند لحظة الذروة في هذه التصادمات الرفيعة يبدأ الاسترخاء.. تمهيداً لنقلة الختام ذات الطابع الغنائي الشفيف.
 
هذا الوصف التشريحي المجازي للعزف "الفيلارموني" الكلاسيكي لا يعني تطابقاً شرطيا بين مختلف المؤلفين، فعند كل واحد سمة خاصة، وميزات نسبية، ومن هنا القول بالغنائية العالية لموزارت، مقابل الدراما التعبيرية لبيتهوفن، وهكذا .
 
طفولة عبقرية 
ولد موتسارت لأب مستور الحال، وكان ولده عازفاً محترفاً وموسيقياً اعتيادياً، وقد سجل مؤرِّخوا سيرة موتسارت تلك اللحظة الفارقة التي ألهمت والده القيمة النوعية لطفله الصغير، فقد كان موتسارت محباً للاستماع الموسيقي وهو في الثالثة من عمره،  وحالما بلغ الرابعة فاجأ أباه بتدوين موسيقي طفولي كان بمثابة أول "سوناتا" لذلك للطفل العبقري، ومن هنا بدأ الأب العناية الخاصة بموتسارات .
 
مثل موتسارت برزخ لقاء دلالي وفني بين قامتين كبيرتين: الأول هو الموسيقار الكبير "باخ" الذي عرف موتسارت الطفل وأشار لعبقريته بالبنان، والثاني الموسيقار الأشهر "بيتهوفن" الذي تنبأ له موتسارت بمكانة رفيعة في الموسيقى .
 
في الخامسة من عمره شرع موتسارت في التاليف الموسيقى، وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن يترك كماً كبيراً من السمفونيات،  والكونشريتات، والسوناتات، وأعمال الاوبرا، وموسيقى الغرفة، وغيرها من الأعمال .. بالرغم من حياته القصيرة التي امتدت 36 عاماً فقط .
 
ثنائية موسيقية فنية
منذ البدايات الاولى درجت الآداب التدوينية الموسيقية الأوروبية على تجيير الاصول المفاهيمية للموسيقى على اليونانيين القدامى، ولقد سرى هذا الأمر في كل الفنون الاوروبية التي تناوبت تسميتي الكلاسيك والرومانتيك، صدوراً عن الاداب الفلسفية والميتافيزيقية الاغريقية، فقد أصبحت تسمية كلاسيك قرينة البناء المحكم والعقلانية المستمدة من إله الشمس والحقيقة "ابولل"، فيما جُيِّر مُسمى الرومانتيك على الوجدانية العالي المقرونة بإله الخصوبة ديونيسوس.
 
في حالة ابوللو كان القيثار رمز الموسيقى، فيما كان الناي رمز الموسيقى في حالة ديونيسوس، ويمكن هنا ملاحظة الرفق الوعيبين الالتين .. القيثار آلة وترية متعددة الأبعاد والنغمات ، والناي آلة نفخ أقل تعدداً في الأبعاد والنغمات..
لكن هذا التنصيف الأول خضع لمتوالية تعمير مفاهيمي وجودي مؤكد ... إبتداءً من النظر إلى العالم بوصفه محكوماً بنظام واحد ، فالإنسجام الجبري مع نواميس الطبيعة، وحتى الانتقالات المفاجئة وغير المتوقعة في الجملة اللحنية. وكان الطلسم المعنوي الذي يعكس هذه الثلاثية المفاهيمية منتظماً في سياق ثلاثية الهارموني والنظام والتعبير. مما يمكن اعتباره المِثال الأكبر للموسيقى الكلاسيكية.
 
تاليا تربعت فرنسا القرنين السابع والثامن عشر في صدارة المشهد التراجيدي الغنائي الأوبرالي، فيما تعمْلقت مدرسة "فيينا" لتنجب الكبار موتسارت وبيتهوفن وهايدن، واستتباعاً اخذت الأنماط الكلاسيكية مداها الكامل، ضمن متوالية تبدأ بالسوناتا، فالكونشيرتو، فالغزف السيمفوني، وحتى الرباعيات الموسيقية.
 
في معادلة التعبير بدا موتسارت أكثر غنائية، وأميل للتفاؤل والتناغم مع الطبيعة، وأكثر تباعداً على الانفعالات الشخصية، وبهذا اسطاه توحيد التطبيق مع القالب اللحني، وأخذ مداه الخاص . 
 
استعادة ثانية
الزمن الإبداعي للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية كان مشهوداً في القرنين السابع والثامن عشر، لكن المُقدمات سبقت ذلك، وقد قرأت في مقاربة شيِّقة عن أثر الموسيقى الأندلسية على الموسيقى الكلاسيكة الأوروبية، من حيث التنقلات في الحركة من أدنى لأعلى، والعكس؛ ومن حيث الروافد الموسيقية المتنوعة لهما، من ناحية أخرى.. والأهم من هذا وذاك اقتران التجربتين بنمط من أنماط الارستقراطية الطبقية التي أفضت إلى توق نخبوي للتميُّز المُحتشد بالثراء المادي والروحي.. تعاطياً مع الجميل الباذخ، والكثير المُنظَّم. فالأندلس شهدت هذه الارستقراطية الطبقية المقرونة بثقافة موازية، واستطرد هذا الثراء الباذخ في عموم أوروبا لاحقاً؛ بصيغتيها الإقطاعي النبيل، والبرجوازي فاجر الثراء، وذلك خلال الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر.
 
 
هل يمكننا القول بأن احتضانات الإقطاع النبيل والبرجوازية الفتيَّة أفضت إلى تلك الأبنية الملحمية الهائلة في تلك الموسيقى، كما لأنواع الفنون الاخرى؟ وهل يمكننا اعتبار الروافد الشعبية والدينية قيمة مضافة لا تقل أهمية عن دور الارستقراطية النبيلة بشقيها الإقطاعي والبرجوازي؟ وهل يقلل هذا الأمر من عبقرية ومثابة الموسيقيين الأفذاذ الذين قاموا بتلحين وتوليف تلك الروائع الملحمية الرفيعة؟ وهل كان تضافر تلك الروافد والإمكانيات والمَلَكات شرطاً سابقاً على المنجز الكبير؟ وهل تلاشت وخبت الروافد الشعبية الفولكلورية، عطفاً على التأليف والتوليف السمفوني.. أم ظلت مغروسة في أساس وتضاعيف الموسيقى الكلاسيكية؟ وهل يمكننا اعتبار ذلك المنجز الكلاسيكي الموسيقي أوروبياً فحسب؟
 
كل سؤال من هذه الأسئلة بحاجة إلى جواب منفصل، وأعتقد جازماً أن كامل تلك الروافد أسهمت في انبعاث النفس الإحيائي النهضوي للموسيقي الكلاسيكية، وكانت مدن القرون الوسطى رافعة تمهيدية مؤكدة لعبقرية الذات الموسوعية المُغايرة للذوات المتشظِّيَة المتقلِّبة الحائرة التي خرجت من رحم الحداثة وما بعد الحداثة.
 
وبمناسبة المقاربة الخاصة بأثر الموسيقى الأندلسية "المورسكية" على البُنية اللَّحنية الكلاسيكية؛ أُشير إلى أن فكرة البناء اللَّحني المقرون بالأحوال والمقامات استُمدت من الطبيعة وتقلُّباتها آناء الليل وأطراف النهار، تلك التقلبات التي تؤثر إلى العوالم الداخلية للأنا السامعة.. عندما كان الموشَّح التاريخي الأندلسي يعزف في قصور إشبيلية وغرناطة، وكانت الجوقة الموسيقية تعزف في رابعة من ساعات الليل أو النهار، لتُبدِّلها جوقة أُخرى تستكمل العزف بالتداعي مع تقلبات الزمن الفيزيائي، حتى أن القصور المنيفة كانت تتهادى طوال ساعات اليوم مع المعزوفات الشجية الصادرة عن الآلات، كما عن أصوات المُنشدين. وقد كانت تلك الموشحات مُتَّسقة مع ثقافة "الاحتشاد الفني" الذي تُميِّز الرؤية "العربسلامية" للفنون، مما سنأتي على ذكره تفصيلاً في مناسبة لاحقة، ذلك أن تلك الثقافة لم تكن في مجال الموسيقى والغناء فقط، بل أيضاً في كافة أنواع الفنون العربسلامية التي ما زالت تنطق بهذه الحقيقة.
 
تأثرت أوروبا بالموسيقى الأندلسية، كما تأثرت بالنظرات الفكرية والفنية الأندلسية أيضاً. لكن أوروبا مازجت النفس الأندلسي بثقافتها الخاصة القائمة في أساس التجسيم والاختزال، المقرون بالبرهان الرياضي الجبري، وهذه الثقافة بحاجة أيضاً إلى توضيح أشمل نتجاوزه هنا حتى نُنهي هنا البُعد الوصفي العام في العلاقة بين الموشح والعمل السمفوني، والذي يتلخَّص في الانتقال من متوالية الساعات الطويلة لليل والنهار، إلى الاختزال الذي يقلل من زمن الحركات الموسيقية التعبيرية، وصولاً إلى الحركات الأربعة الكبرى الموصولة بالفصول الأربعة للعام، كما لو أن هذه الفصول تعبير مكثف عن تداعيات الأيام وتقلباتها.. لكنها ليست تداعيات محايثة للزمن الطبيعي فحسب، بل للزمن النفسي الإنساني المجبول بالأفراح والأتراح .. بالسعادة والشقاء.. بالطمأنينة النسبية والحيرة الدائمة.. الخ..
 
لعل سمفونية "فيفالدي" بعنوان "الفصول الأربعة" خير مثال على ما نذهب إليه، وبالمقابل سنجد البُعد الدرامي الأكثر صعقاً عند "بيتهوفن"، بمقابل الغنائية الملحونة بالأوتار عند "موتسارت" ، والاعتداد الكبير بالمعادل الفردي في العزف عند "شوبرت".
 
ومقطع القول أن البناء التركيبي للموسيقى الكلاسيكية مُتعدد ومتنوع؛ لكن القاسم المشترك الأعلى فيها يتمثَّل في كونها صادرة عن ثقافة عالمة بالموسيقى، وأداء مقرون بالتخصص في العزف والإنشاد، وتطوافات بانورامية تكتسب زخمها الكبير من تضافر مئات آلات العزف التي تماهي بين الهارموني والكونترابنكت... التناغم والتضاد؛ فتُصبح الجمالية التعبيرية قائمة على النسقين معاً.
 
ومن أُصول التلقي للموسيقى الكلاسيكية تنمية التذوق السماعي، دونما اعتماد عن المعاني الصادرة من الكلام "اللغة"، كما يحدث في الغناء الشائع .. وتبعاً لذلك تنفلت الموسيقى الكلاسيكية من عقال المحلِّية، كونها لا تعتمد على "الاتصال اللفظي"، بوصفه ركناً ركيناً في تكاملية الأداء بين اللحن والكلام، بل تعتمد على "الاتصال غير اللفظي" المستند حصراً على الأصوات المجردة، سواء صدرت من الآلات، أو من حناجر البشر.
 
موتسارت مجدداً
مثل الموسيقار لالماني اماديوس موتسارت لحظة فارقة في الموسيقى الكلاسيكية الاوروبية ، وبدت عبقريته رديفة لذلك الدفق العالي، والانتظام المحتشد، والجماليات الصاعقة، حتى إنه يمكن القول بأن دراسته تمثل أساساً مكينا لمعرفة مثابة الموسيقى الصافية. تلك التي سارت قدماً وتباعاً لتكتسي ملامح جديدة عند فيفالدي الايطالي، وياني القبرصي.
 
استعادة الموسيقى الكلاسيكة يضعنا أمام سؤال هام يتعلق بمثابة موسيقانا الخاصة .. تلك التي اعجزت علماء نابليون  بونابرت الموسيقيين، عندما وجدوا أنفسهم في حيرة مطلقة أزاء تدوين الفنون الموسيقية العربية.. لكنه تيقَّنوا بعد حين بان رافعتي الكمان والناي الفرديتين العجيبتين كانتا سبباً حاسماً في الأداء التوليدي الحُر للعازفين، مما فاض بالجوقة الشرقية إلى الارتجال والخروج من دائرة النظام المغلق المستغلق للنمط الأدائي والعزفي الاوروبي، دون أن يعني هذا الاستنتاج مثابة خاصة لموسيقانا قياساً بالأوروبية،  والعكس صحيح أيضاً، والحديث في هذا الموضوع بالذات يطول ويتشعب، ونأمل ان نباشرة قريبا إن شاء الله .