عمر الشريف بمناسبة رحيله الفنان الذي ردم الحواجز بين الصوتي والمرئي

21 يوليو, 2015

توطئة
استعادة سيرة الفنان الكبير الراحل عمر الشريف تحيلنا مباشرة إلى منطقتين حاسمتين في تاريخ مصر والعالم العربي، وكلتا المنطقتين تعبران عن قيمة ثقافية وأخلاقية شاملة، فقد كانت مصر على عهد ولادة ونمو الفنان عمر الشريف في الربع الأول من القرن العشرين تمثل قمة الثقافة الإحيائة النهضوية التي سادت العالم العربي، وشكلت أحلام وآمال العرب في "غدٍ مُشرقٍ عزيز وأُمة عربية موحدة"، كما كانت البيئة الأدبية والفنية والثقافية المصرية حاضناً كبيراً لتنوُّع المعطيات الثقافية العربية في كامل الجغرافيا الأنتربولوجية العربية، وكانت السينما العربية المصرية آنئذٍ محطة أساسية في هذه التفاعلية الأُفقية الكبرى، حيث اجتذبت قامات وأسماء من مختلف الأقاليم الثقافية العربية، وحتى المتوسطية الأوروبية.. 
حيث تساوقت سينما الأربعينيات مع الإنتاج السينمائي العالمي في إيطاليا وفرنسا واليونان، مما هو مشهود في إرشيف الذاكرة السينمائية العربية، وبالمقابل تعمْلقت المعايير الفنية حتى أن الإنتاج الفوتوغرافي التمهيدي لسيناريهات الأفلام، والرسوم التوضيحية لتكوينات المشاهد، كما عُرف عند الفنان الكبير شادي عبدالسلام.. أضحت من اللوازم الجبرية في الإنتاج الفني السينمائي.
 
هكذا سارت الأُمور قدماً، وكان عمر الشريف حاضراً في المعادلة الفنية السينمائية على عهد أفلام الأبيض والأسود التي مثَّلت ذروة التقاليد الحميدة في العطاء الفني السينمائي، من حيث البناء المشهدي، والمؤثرات الصوتية والضوئية، والمونتاج، والديناميكية الانسيابية للَّقطات، وتكريس الممثل النمطي للأدوار المألوفة، وبمشاركة كوكبة من كبار المخرجين الموهوبين .. 
نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الراحلين يوسف شاهين وتوفيق صالح، وسنرى أن الإسمين المذكورين اللذين ذكرناهما مثالاً لا حصراً، تميَّزا تباعاً بالبناء المشهدي الدرامي التاريخي عند يوسف شاهين كما في الفلم التاريخي الملحمي.. الناصر صلاح الدين، والتسلسل الرشيق االتعبيري عند توفيق صالح.
 
 تلك المَلكات التي انعكست لاحقاً وتباعاً عند المخرجين الكبيرين نور الدمرداش.. صاحب المآثر الدرامية التلفزيونية المبكرة، وخيري بشارة.. الصانع الكبير في سينما الواقعية الجديدة العربية، ذات النفس الواقعي الجديد الأوروبي، وخاصة الإيطالي منه.
 
حظوظ الشريف الوافرة
ربما كانت من محسن الأقدار وحسن الحظ أن تأتي مساهمات الفنان عمر الشريف السينمائية العربية في الفترة السابقة على ستينات القرن العشرين المنصرم، ذلك أن مغادرته للسينما العربية في عام 1962م.. تصادفت مع تأميم صناعة السينما في مصر، مما أدَّى إلى تراجع  المنافسة الإنتاجية، وتلاشي الاحتراف الفني المتخصص، وتدني قواعد المعايير الفنية الرفيعة، حيث خاض في الحقل السينمائي أصحاب الأموال من المنتجين الفاقدين لبوصلة المعايير الفنية.. الرائين فقط لشباك التذاكر، وقد انعكست هذه الحالة على صناعة السينما العربية في مصر، وتململ البعض من المنتجين المحترفين لينقلوا تجربة البدايات المصرية الرفيعة إلى بيروت، ولكن.. لم يكن لبيروت أن تحل محل القاهرة.
 
ما يهمنا في هذه العرض الإشارة إلى البيئة الحاضنة لأداء الفنان عمر الشريف، والتي توازت مع السينما العربية أيام الأبيض والأسود، ثم انتقاله لاحقاً إلى هوليوود، بالتوازي مع دوره الهام في فلم "لورنس العرب"، وبهذه المناسبة أستوهِمُ شخصياً.. أن المعيار الحاسم في اختيار عمر الشريف انطلق من مقدرته الفائقة على ترتيب وتنظيم وتوشيج العلاقة بين الاتصال التعبيري السينمائي غير اللفظي.. بوصفه ممثلاً من جهة، واللغة الإنجليزية الرفيعة الخالية من اللَّحن والشوائب الصوتية من جهة أخرى، وقد تتبعتُ لديه هذه الحالة الفريدة، فوجدته يجيد اللغات الانجليزية والفرنسية  والإيطالية على نحو متماثل مع العربية، وبتمكن واضح من كسر حواجز الصوتيات الأنجلوسكسونية.. 
بنفس قدرته على كسر حواجز اللغات اللاتينية الغيطالية والفرنسية، ومن باب تحصيل الحاصل أن تكون معرفته بالإسبانية والألمانية واردة بهذا القدر أو ذاك .
 
ما أقوله بخصوص اللغتين الإسبانية والألمانية ليس برهان يقين محكوم بالمُعاينة، بل استنتاجاً يتصل باجادته للإنجليزية والفرنسية والإيطالية.. لكن الأهم من هذا وذاك أن تلك الحالة اللغوية، والمنطق الخوارزمي اللساني الداخلي الذي تميز به الشريف دلَّل على مسألتين هامتين :
الأولى تتعلق بطبيعة التعليم اللغوي التي سادت في مدارس التأهيل والتدريب الرفيع في تلك الأيام الخوالي، والثانية تتعلق بموهبة وملكات عمر الشريف اللغوية، وهي مسألة تتجاوز العلم المكتسب إلى العلم المطبوع .. يقول الشاعر:
 
العلم علمان مطبوعُ ومُكتسب * والبحر بحران مركوب ومرهوب 
 
أجاد الشريف فنون الإتصال غير اللفظي، من خلال التمثيل التعبيري والتجسيمي، وفاض بمعارف لغوية مكَّنته من كسر حاجز العلاقة المتوترة بين الأداء الصوتي والتمثيل، وهو ما ظهر جلياً منذ بداياته السينمائية العالمية، ثم ترسَّخت في تجاربه المتعددة.
 
إذا إضفنا إلى كل ذلك الوسامة المغروسة في السحنة المشرقية العربية، من أسنان مُفلَّجة منتظمة، وشعر كثيف داكن، وقامة مربوعة عربية ، وتحمل جسدي صحراوي ، وصوت رخيم لا يخدش طبلة الأُذن، ووجه مستدير، وأنف مرسوم، وعينين موحيتين، وحاجبين مموضعين بدقة متناهية.
 
إذا نظرنا لكل ذلك سنرى مباشرة الأسباب التكاملية التي مكنته من اختراق هضاب هوليوود السينمائية المنغرسة في المركزية الأمريكية الأوروبية الصارمة.
 
لورانس العرب
كان فلم "لورانس العرب" بداية عهده بالسينما العالمية، وقد لعب فيه دور أحد أبناء الشريف حسين .. ذلك الرجل الذي تاق لبناء المملكة العربية المتحدة اعتماداً على وعود انجليزية سخية،  وانخرط في حرب شرسة ضد الامبراطورية العثمانية .. تلك الحرب التي امتدت من الحجاز حتى تخوم الشام،  ومن أقصى جنوب الجزيرة العربية حتى شمال فلسطين والعراق.
 
مسرح العمليات لهذه الحرب تضمنت حالة الصراع المحموم بين المشاريع الاستعمارية، والتنافس المحموم على مناطق النفوذ، والتمهيد لاتفاقية سايكس بيكو لتقسيم العالم العربي، كما شكلت منصة الانطلاق لوعد بلفور المشؤوم .. يوم أن تخلَّت بريطانيا عن وعودها للعرب، وقلبت لهم ظهر المجن، وهو تومومئ بموافقة عربية ضمنية على ذلك الوعد.
 
كن حضر عمر الشريف في هذه العمل السينمائي الملحمي موازياً لحوضر الممثل الأول .. موازياً له افي الأداء .. متوفرا على القيمة البصرية المقرونة بابن الصحراء العربية.
 
دكتور زيفاجو
بهذا الفلم الهوليوودي اعتلى الشريف منصَّىة العالمية بامتياز، فقد نال العديد من الجوائز التقديرية، فيما باشر دوراً لا يقل أهمية وحساسية عن دوره في لورانس، فقد جاء هذا الفلم في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكان موضوعه رواية "موريس باسترناك" التي ملأت الدنيا الغربية وشغلت القائمين على أمرها، وكانت الإيماءات البنائية الرفيعة للرواية تشير بالبنان لأسلاف باسترناك الكبار من مؤسسي الأدب الروائي الانساني المعاصر.. امثال تولتسوي وجوركي وغوغول وحتى تشيخوف الذي تميز أساساً بالقصة الطويلة،  وجسَّر العلاقة بين السرديات الطويلة والقصيرة .
 
باسترناك سليل هذه المدرسة، والتحدي الكبير الذي وقع فيه عمر الشريف أن عليه الآن أن يجسد دور روسي منشق عن المدرسة السوفيتية العتيدة ، وهنا اجزم أن الشريف درس الشخصية الروسية، واستنبطن ابعادها الثقافية الانتربولوجية، واستطاع أن يقدم نمطاً مفارقاً تماماً لمألوف أعماله ، وبنجاح شهد له كبار النقاد في العالم .
 
جانكيزخان 
وهو فلم عن حياة الزعيم المغولي توموجين، المعروف بلقبه الأشهر جنكيوزخان،  والذي امتدت امبراطوريته الشرسة لتشمل نصف العالم المسكون في ذلك الحين.. يومئذ سيَّج توموجين امبراطورتيه بسلسلة من القواين الصارمة، وباشر مع مُتَّحد القبائل المغولية اندفاعاً شجاعاً، مرقوناً بقدر كبير من الميزات النسبية في الغزوات المعروفة في ذلك الزمان، وحالما وصلت جحافله إلى الصين استفاد من علومها الحربية، وخاصة فنون الكر والفر، وصناعة الباروت، وغيرها من العلوم والفنون .
 
الدور المركزي للشريف في هذا الفلم تطلب منه نفساً طويلاً، وقدرات جسدية خاصة، وقليلاً من الكلام.. قياساً بالأداء التعبيري، وقد نجح في كل ذلك .
 
جيفارا 
واستمراراً لخط التجسيم والتمثيل للقامات التاريخية الكبرى جاء دور جيفارا الذي بدا فيه عمر الشريف متناقضاً مع قناعاته، فقد حرص المخرج على إبهات قيمة جيفارا بين أهله، واعتبار ثورته على الطغيان مجرد عبث لا يقبل به أقرب الناس إليه.. الأمر الذي اعتبره الشريف مصيدة لم يكن ليقبل بها لو عرف ذلك! 
 
وعلى خط متصل باشر عمر الشريف بعد أن بلغ الستين من عمره سلسة من الأعمال المسرحية والتلفزيونية، وكانت له مشاركات وبطولات سينمائية قليلة، لكنه ظل راسخاً في أساس وتضاعيف الانتاج السينمائي العربي والعالمي حتى وافته المنية وهو في الثالثة والثمانين من عمره، وهو ذات العمر التي رحلت فيه زوجته الوحيدة فاتن حمامة.. حيث توفت وهي في الثالثة والثمانين من عمرها. .
 
خلال سنوات مجده الفني في اوروبا وأمريكا ظل ممسكا بجواز سفره المصري وجنسيته العربية. وكان قد أسلم قبيل زواجه من الفنانة فاتن حمامة، وظل وفياً لها طوال حياته، برغم افتراقهما الجبري بسبب ارتباطاته الفنية العالمية، ولم يعرف عنه نكرانا لقومه وأهله، بل عاد إلى مرابع مصر هو يقول: ولدت هنا وسأموت هنا في وطني.
 
  جدير بالذكر أن عمر الشريف ولد في الاسكندرية لعائلة ارستقراطية مسيحية من طائفة الروم الكاثوليك ذات الأصل السوري الحلبي .. ، وأسلم كما أسلفنا ، ومات على دينه، حيث تمت الصلاة عليه في أحد مساجد القاهرة، ووري الثرى في مقابر المسلمين.