نقاد عرب يبحثون جدل مصطلح التناص في القصيدة الحديثة

18 يناير, 2018


علاء الدين محمود



ضمن فعاليات الدورة السادسة عشرة من مهرجان الشارقة للشعر العربي، أقيمت ندوة «التناص في القصيدة العربية الحديثة»، في بيت الشعر في الشارقة. 



قدّم النقاد والأدباء المشاركون من مختلف أنحاء العالم العربي، وهم: د. محمد منور المباركي «السعودية»، د. نانسي إبراهيم «مصر»، د. حكمت النوايسة «الأردن»، د. زهور كرام «المغرب»، د. فؤاد شيخ الدين عطا «السودان»، ود. بسمة عروس «تونس»، أوراقاً اجتهدت في مقاربة عنوان الندوة التي أدار جلستيها نواف يونس «سوريا»، ومستورة العرابي «السعودية».



في الجلسة الأولى قدّم الناقد السعودي الدكتور محمد منور المباركي، تتطوافاً حول علاقة مصطلح التناص بالأدب العربي، راصداً التأويلات الخاطئة والصحيحة للمصطلح قديماً وحديثاً، وكيف أن شعراء القصيدة الحديثة قد خلقوا علاقة منفتحة على التراث، هي علاقة تناص متفاعل معه، وهدفت الورقة إلى تناول ظاهرة التناص وتوظيفاته بين التراث والقصيدة العربية المعاصرة، من خلال استلهام القصيدة المعاصرة للشخصيات التراثية، والتناص معها، وتأويلها، وتوظيفها لتعبّر من خلال تلك العملية التناصية التوظيفية عن رؤيتها للحياة، ودراسة ما نتج عن هذه التقانة الإجرائية، والتجربة الفنية في الشعر العربي المعاصر، من تأويلات صحيحة للتراث وأخرى خاطئة، وتحليل ذلك تحليلاً فنياً؛ من أجل الكشف عن الشروط والمعايير التي يجب أن تحكم هذه التقانة، وما تقوم عليه من تناص مع التراث وتأويل له من منظور النقد الأدبي وبنائه المنهجي، ولتجلية جدوى تلك العلاقة الفنية ومكتسباتها الدلالية والجمالية، وتجنيب تقنيات تلك العلاقة التأويلات الخاطئة التي نالت جزءاً منها وأدخلتها في مزالق فنية ومنهجية، وانحرفت بها وبدلالاتها الأصلية، فأحدثت فيها فوضى فنية ومضمونية.



واستعاد حكمت النوايسة في ورقته، اجتهادات ابن رشيق القيرواني حول السرقات الأدبية، والتي وصفها ابن رشيق بالباب المتسع الذي لا يفلت أحد من الشعراء من الوقوع فيه، ويرى النوايسة أن ما أورده ابن رشيق لا يختلف كثيراً عن مفهوم التناص، إذ إنه يعني وجود علاقة بين النص والنصوص الأخرى، فالشاعر لا يفلت من ذاكرته ولا قراءاته فيخترع نصاً لا يشابه آخر.



وناقشت ورقة النوايسة التي حملت عنوان «التناص في الشعر العربي.. قصيدة «الحق أبلج» لأبي تمام نموذجاً»، موضوع التناص واستدخال معطيات التاريخ في القصيدة، من خلال التعريج على مفهوم التناص؛ وتناولت كذلك موضوع توظيف التاريخ والنصوص التاريخية في قصيدة «الحق أبلج» التي قالها أبو تمام بعد مقتل الأفشين، وهو أحد أبرز قادة الجيوش المقربين من الخليفة المعتصم، ولكنه اكتشف خيانته فأعدمه، وقد قال أبو تمام القصيدة في تعزية المعتصم، وتصوير أثر مقتل الأفشين شعبياً ورسمياً، ويرصد النوايسة الصور في قصيدة أبي تمام، وتداخلها مع مفهوم التناص، من خلال تحشيد القصيدة بالتراث العربي والإسلامي، وقصص القرآن الكريم.



وطافت الدكتورة نانسي إبراهيم في تاريخ مصطلح التناص، مرجعة تبلوره على يد الباحثة الفرنسيّة البلغارية الأصل جوليا كريستيفا، التي تأثرت بأفكار أستاذها «ميخائيل باختين»، وحديثه عن «المبدأ الحواري»، وأثره في الرواية، وتناوله النقاد، وشابه الغموض، والتشويش حتى عام 1976 عندما نشرت مجلة «ويبتك» الفرنسية عدداً خاصاً من إشراف «لوران جيني» حول التناصات، حيث اقترح جيني تعريف التناص ب«عمل تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم بها نص مركزي يحتفظ بزيادة المعنى». وتكتشف الورقة وجود جذور عربية للمصطلح، حيث يكمن في بعض الاصطلاحات البلاغية القديمة كالسرقات الشعرية، والأخذ والعقد، والحل، والمفاوضة، وغيرها من مصطلحات استخدمها النقاد والبلاغيون العرب منذ قديم الأزل، معوّلين استخدامهم على الجانب الأخلاقي للفظ السرقة، حيث قسموا السرقة نفسها إلى سرقة محمودة وسرقة مذمومة، وكثيراً ما انتصر نقاد الموازنات والمفاضلات، وكان «حازم القرطاجني» يسمي هذا اللون من الأخذ «مفاوضة»، وكثيراً ما أبرزت تعليقات النقاد وعياً كبيراً بجماليات الأخذ وجودة التوظيف.



وأشارت إلى كثرة الدراسات الأدبية التي تناولت التناص لغة واصطلاحاً، موردة بعضاً منها لتنطلق عبرها إلى مفهوم محدد للنص يقود إلى التراكم والمجاورة والاتصال، ولاحظت الورقة كثرة النماذج التطبيقية التي تدور حول الشعراء الأشهر في توظيف الموروث بأشكاله التاريخية والدينية مثل أمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، ودرويش وغيرهم.



وأوضحت الورقة أن سورة «يوسف» من النماذج الثرية المختزنة في الوعي أو اللاوعي الجمعي كنموذج جامع لعناصر القص والحكي، مزدحم بالفكرة والحدث والشخوص والتشويق، وقابل في الآن نفسه لإعادة التوظيف والإسقاط الآني بصورة لا متناهية الزوايا، وقد تخيرت الباحثة ثلاث قصائد غير متصلة بجغرافيا محددة، قدر ما تعتمد على الذائقة الشخصية بتحليل موضوعي؛ أما الأولى فهي قصيدة (نسوة في المدينة) للشاعر السعودي أحمد قرآن الزهراني، والقصيدة الثانية هي (قمصان يوسف) للشاعر اللبناني شوقي بزيع، أما الثالثة فهي (الباب يطلبني للدخول) للشاعر الإماراتي محمد عبد الله البريكي، في توظيفيات حداثية تستلهم سورة (يوسف) عليه السلام.



وتواصلت الندوة في جلستها الثانية، حيث قدّم فؤاد شيخ الدين عطا ورقة حملت عنوان «التناص في شعر محمد عبد الباري»، وهو شاعر سوداني، وفي البدء قدّمت الورقة تعريفاً لمصطلح التناص، معتبرة إياه إحالة نصّ ما إلى نصّ آخر أو نصوص أخرى، بحيث يتوقف فهم النص الأول - إلى حد كبير- على فهم النصوص الأخرى، مستعيداً بعض تعريفات النقاد الذين أسسوا للمصطلح واشتغلوا عليه، ليخلص إلى أن المصطلح يتلخص في أن النصوص تشير إلى نصوص أخرى، مثلما أن الإشارات تشير إلى إشارات أخرى، وليس إلى أشياء معينة مباشرة، فالفنان لا يكتب ولا يرسم من الطبيعة، وإنما من وسائل أسلافه في تحويل الطبيعة إلى نص، ومن هذه النقطة تدلف الورقة إلى استفادة الشاعر محمد عبد الباري من نصوص الأقدمين والمعاصرين فائدة كبيرة، عن طريق التناص والاستدعاء والتوظيف المباشر. 



وذهبت زهور كرام في ورقتها التي حملت عنوان «التناص وسؤال الشعر»، إلى أن التناص يسمح باكتشاف العمل الأدبي في بعده الثقافي، ولهذا فإنه مفهوم يظل حركياً ويتجدد مع كل حالة ثقافية تخص القراءة، وتنطلق الورقة من علاقة الشاعر باللغة كونه يكتب من داخلها، وبها، فوضعية اللغة في الشعر، والفضاء النصي للقصيدة، وموقع الشاعر في اللغة، ووضعية الاستعارة كلها عناصر جعلت التناص أمراً يدعو إلى التفكير فيه مع الشعر، والتناص إجراء تقني، وإبداعي، وثقافي يحقق التواصل بين الحضارات، والمجتمعات، والنصوص، ويعبّر عن مبدأ الاستمرارية، والشراكة، فهو ليس مجرد تقنية في الكتابة، إنما هو فلسفة حول معنى وجود الفعل الرمزي.



ومن جهتها أشارت الناقدة التونسية بسمة عروس إلى تنوع واختلاف أشكال التناص في القصيدة العربية، معتبرة أن البحث في أحد أنواعها، والتحقيق في وجوهه أكثر نجاعة في تقديم فهم أفضل لظاهرة قديمة قدم الشعر نفسه ألا وهي التضايف بين النصوص والأخذ والسرقة بالمفهوم النقدي، والبلاغي القديم، والتحويل، والاستدعاء، أو البين خطابية بالمفهوم الخطابي، والعلمي، أو كما هو معروف في راهن الدراسات الأدبية.